الإمام الصادق علیه السلام : لو أدرکته لخدمته أیّام حیاتی.
نطح مولانا الإمام السجّاد عليه السلام بوجهه على الجدار وكسر أنفه وشجّ رأسه‏ عليه السلام

   نطح مولانا الإمام السجّاد عليه السلام

   بوجهه على الجدار وكسر أنفه وشجّ رأسه‏ عليه السلام

نقل المحدّث النوري أعلى الله مقامه في كتابه «دارالسلام» في بعض المجاميع‏ للمتأخرين ما لفظه روي: عن علي بن الحسين‏ عليهما السلام انه ذات يوم من الأيام وضع‏ بين يديه شي‏ء من الطعام والشراب، فذكر جوع أبيه الحسين ‏عليه السلام وعطشه يوم‏ طف كربلاء؛ فخنقته العبرة وبكى بكاء شديدا، حتّى بلّ أثوابه من شدة البكاء والحزن والوجد والغرام(1) على أبيه الحسين ‏عليه السلام ثم أمر برفع الطعام من بين يديه، وإذا هو برجل نصراني فدخل وسلم عليه، فقال النصراني: يابن رسول الله مديدك فإنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله وأنّ عليّاً أميرالمؤمنين ‏ولي الله وحجّته على خلقه؛ وإنّك يا مولاي حجّة الله على خلقه، وان الحقّ فيكم ‏ومعكم وإليكم، فقال علي بن الحسين ‏عليه السلام: وما الّذي أزعجك وأخرجك عن‏دينك ومذهبك وفطرة آبائك وملّة أصحابك؟ فقال: يا سيدي ومولاي لرؤيا رأيته ‏في منامي! فقال له علي بن الحسين: وما الّذي رأيته يا أخا النصراني؟ قال: رأيت ‏يا سيدي كاني خرجت من بيتي قاصداً لزيارة بعض الأخوان، وإذا بي قد تهت عن‏ طريقي(2) فحار فكري وضاع ذهني وانسدت الطرق في وجهي، ولم أدر أين ‏أتوجه.

فبينما في حيرة من فكري وإذا من خلفي زعقات(3) وصرخات وتكبير وتهليل ‏وأصوات عالية قد ارتفعت، فالتفت إلى ورائي وإذا بخيل وعسكر وأعلام ‏منشورة، ورؤوس على رؤوس الرماح مشهورة، ومن وراء الخيل والعسكر عجاف من الجمال(4) عليها نساء مسلبات وأطفال موثوقات، وأثاث بيوت‏ محملات، وبين تلك النساء والأطفال غلام شاب راكب على جمل أضلع(5) وهو في غاية الضر والعناء، ورأسه ويداه مغلولتان إلى عنقه بجامعة من حديد، وفخذاه‏ يشخبان دما، ودموعه تجري على خديه؛ وكأنه أنت يا سيدي يا علي بن ‏الحسين ‏عليه السلام، وكل من تلك النساء الأطفال تلطم وجهها وخديها وتصيح بأعلى ‏صوتها، وتقول: وا محمّداه وا عليّاه وا فاطمتاه وا حسناه وا حسيناه وا مقتولاه وامذبوحاه وا غريباه وا ضيعتاه وا ه(6) وا كرباه.

فخنقتني العبرة ورق قلبي ودمعت عيناي لحال تلك النساء؛ فآنست وحشتي ‏بهم، وجعلت أبكي لبكائهم وأسير لمسيرهم، فبينما هم سائرين إذ لاحت لهم قبة بيضاء من صدر البرية كأنّها شمس مضيئة وكان أمام القافلة ثلاثة من النساء، فلمّا رأين القبة البيضاء وقعن من ظهور الجمل إلى الأرض، فحثين التراب على ‏رؤوسهن و لطمن على خدودهن وقلن: وا حسناه وا حسيناه وا غربتاه وا ضيعتاه ‏وا قلة ناصراه.

فلحق بهن رجل كوسج اللحية أزرق العينين وضربهن وركبهن كرها، فرأيت ياسيدي ومولاي واحدة منهن وأظنها أكبر سنا يتقاطر الدم من تحت قناعها من شدة وجدها وحزنها على ما هي فيه، وكان يا سيدي أمام الرؤوس رأس له نور يزهر يغلب على شعاع الشمس والقمر، ولما قربوا من تلك القبة البيضاء وقف الرجل ‏الذي هو حامل الرأس الشريف فزجروه وأصحابه وضربوه وأخذوا الرأس ‏الشريف منه، وقالوا له: يالكع الرجال (7) لقد عجزت عن حمله، قال: ولكن لم أررجلا يساعفني(8) عن المسير فضربوه وأخذوا الرأس من عنده وناولوه رجلا آخر، فوقف كذلك فجعلوا يتناولونه واحد بعد واحد حتى نقلوه ثلاثون رجلا والله أعلم‏ يا سيدي والكل منهم لم يجد رجلا تساعفه على المسير.

فأخبروا بذلك أمير القوم فنزل عن فرسه وباقي القوم نزلوا كذلك وضربوا له ‏خيمة أزهى من ثلاثين(9) ذراع وجلس أمير القوم في وسط الخيمة والباقي من‏ حوله، و أتوا بتلك النساء والأطفال ورموهم على وجه الأرض بغير مهاد ولافراش تصهرهم الشمس(10) وتلفح وجوههم الريح، ونصبوا الرماح الّتي عليها الرؤوس أمام تلك النساء والأطفال عمدا وقصدا لكسر خواطرهم وزيادة لما هم‏ فيه من حرقة قلوبهم وتفتت أكبادهم(11) .

قال النصراني: يا سيدي ومولاي، فجزعت لذلك جزعا شديداً ولطمت على ‏وجهي ومزقت اطماري(12) لما شفني وشجاني، وجلست قريباً من النساء والأطفال ‏وأنا حزين القلب باكي العين وإذا بالرمح الذي عليه الرأس الشريف قد مال ممّايلي القبة البيضاء ونطق بلسان طلق ذلق: يا أبتاه يا أميرالمؤمنين يعز عليك ما أصابني وجرى علينا من القتل والذبح يا أبتاه قتلوني والله عطشاناً، ظمآناً غريباً وحيداً ذبيحاً كذبح الكبش، يا أبتاه يا أميرالمؤمنين رضوا جسمي بسنابك الخيل، يا أبتاه ذبحوا أطفالي وسبوا عيالي ولم يرحموا حالي، وسمعت أيضا الرأس‏ الشريف يوحد الله ويتلو آيات من القرآن، فزاد على جزعي وقلت في نفسي: ان‏ صاحب هذا الرأس الشريف لذو قدر عند الله وشأن عظيم، فمال قلبي إلى محبته والموالاة به، فبينما أنا أفكر في نفسي وأخيرها بين الكفر والإسلام وإذا بالنساء قدعلا صراخهن وقمن على الأقدام وشخصن بأبصارهن ممّا يلي القبة البيضاء، فقمت على قدمي وشخصت بصري وإذا بنساء خرجن من تلك القبة، وأمام تلك‏ النساء جارية حسناء؛ وفي يديها ثوب مصبوغ بالدم و شعرها منشور وجيبها ممزوق، وهي تعثر بأذيا لها وتلطم خدها وتستغيث بالأنبياء وبأبيها رسول الله وبأميرالمؤمنين من قلب مفجوع وفؤاد بالحزن مشلوع، وهي تصرخ وتنادي ‏بأعلى صوتها: وا ولداه وا ثمرة فؤاداه وا حبيب قلباه وا ذبيحاه  وا قتيلاه وا غريباه‏ وا عباساه وا عطشاه.

ولمّا قربت يا سيّدي ومولاي تلك الجارية من الرؤوس والأطفال، وقعت ‏مغشية عليها ساعة طويلة، ثمّ أفاقت من غشوتها وأومت بعينها إلى الرأس ‏الشريف، فانحنى ذلك الرمح الّذي عليه الرأس الشريف بقدرة الله تعالى وسقط في حجر الجارية، فأخذته وضمته إلى صدرها واعتنقته وقبلته، وقالت: يا بني ‏قتلوك كانّهم ما عرفوك وما عرفوا من جدك وأبوك؟ يا ويلهم ومن الماء منعوك، على وجهك قلبوك؛ ومن قفاك ذبحوك يا ولدي يا حسين من الذي جز رأسك ‏من قفاك؟ ومن الّذي هشم صدرك ورضه، وهد قواك، ومن الّذي يا أبا عبدالله سبي عيالك ونهب أموال ومن الّذي ذبحك وذبح أطفالك؟! فما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة رسول الله ؟! قال الراوي: لما سمع علي بن الحسين سقوط الرأس في حجر الجارية الحسناء، قام على طوله ونطح جدار البيت بوجهه؛ فكسر أنفه وشج رأسه وسال دمه على صدره، وخرّ مغشيا عليه من شدة الحزن والبكاء.

فلما أفاق من غشوته صرخ صرخة عالية حتى سمعها أهل المدينة، فماجت‏ المدينة بأهلها كما تموج السفينة في البحر، فخرجن نساؤه وبناته وأهل بيته‏ وكلهن كان حاضراً وأتين إليه يتعثّرن بأذيا لهنّ لمّا سمعوا تلك الصيحة العالية من‏علي بن الحسين فرأينه في بكاء دائم وعزاء قائم، فتصارخن في وجهه وتباكين ‏لبكائه ونعين لنعائه، قال النصراني: وقد ظنت النساء بان سبب هذا البكاء وتجديد هذا العزاء مني، فأتتني واحدة من تلك النساء وقالت: يا ويلك يا هذا! قد هيجت‏ على هذا العبد الصالح أحزانا كامنة في قلبه وعبرة منكسرة في صدره وأرادت ‏تخرجني من البيت، فمنعها الإمام، فبينما الإمام في بكائه وحنينه على ما ذكرت له‏ وإذا بصبي قد أتى إليه وجلس إلى جانبه، وقال: يا أبتاه على من هذا البكاء؟ ولمن ‏هذا العزاء؟ قال: نعم يا بني هذا الرجل النصراني يذكر انه رأى في منامه رأس ‏جدّك  الحسين ورؤوس أولاده وأهل بيته ورؤوس أخوته وبني أخيه ونسائه‏ وأطفاله يدار بهم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان ومن سكة إلى سكة فبكى ‏الصبي ولطم على خده وصاح بأعلى صوته: يا جدّاه وا حسيناه وا غريباه وا مظلوماه، يا ليتني قد قتلت بين يديك يا جدّاه يا ليتني قد جرعت كأس الردى ‏دونك؟ يا جدّاه يا ليتني كنت لك الفدا وروحي لروحك الوقا.

وإذا بجارية أتت إليه وحملته على صدرها وجلست ناحية عن أبيه من شفقتها عليه، وجعلت تمسح الدم عن وجهه وتعزيه، فلا يتعز وتسليه فلا يتسلى، ورأيت أيضا شخصاً كبيراً وقد جلس على البيت من خارج الباب وهو يلطم على ‏خديه ويصيح ويندب بأعلى صوته وا قوماه وا أهلاه وا حسناه وا حسيناه، وا جعفراه وا عقيلاه وا حمزتاه وجعل يقوم ويجلس وينتحب ويبكي، قال‏النصراني: فرأيت علي بن الحسين قد تغيرت أحواله، فأمسكت عن الكلام‏ فالتفت إليّ الإمام صلوات الله عليه وقال لي: تمّم المنام يرحمك الله قلت: يا سيدي‏ واما ما كان من الجارية الحسناء، فإنّها أخذت الرأس الشريف ووضعته في‏ حجرها وهي تشمه تارة وتلثمه أخرى والنساء تعزّيها على ما أصابها وجرى ‏عليها، وإذا بشخص قد أقبل عليهن من صدر البرية وهو جثة بلا رأس والدم‏ يجري من نحره على جميع بدنه، ولمّا قرب يا سيّدي ذلك الشخص من النساء والجارية الحسناء، فقمن على أقدامهن ولطمن على خدودهن وشققن جيوبهن‏ وتصارخن في وجهه، فأخذت الجارية الحسناء ذلك الرأس ورفعته على كلّتي ‏يديها وإذا بهاتف نسمع صوته ولا نرى شخصه و هو يقول:

 

   شعر

يا فاطم الزهراء جئناك بالرأس

كالبدر يزهو بجنح اللّيل للنّاس(13)

مضمخ شيبه بالدم منحره

من فعل قوم ملاعين و أرجاس(14)

قدقده الشمر بالعضب السنين على

حقد بقلب مشوم جاسر قاس(15)

يقول: يا أم قدى للجيوب ترى

يزيدهم هدمت يمناه أضراس(16) .

 

ثم أتت بالرأس الشريف إلى ذلك الجسد المبارك الذي هو من غير رأس، فركبته فاستوى بقدرة الله تعالى وقام على أقدامه فاعتنقته واعتنقها فسقطا إلى ‏الأرض مغشيا عليهما فلما أفاقا من غشوتهما جعلت تمسح الدم من منحره‏ وجميع بدنه وأنشأت تقول:

يا رأس يا رأس قد جددت أحزاني

لما جرى لك يا روحي و جثماني

أيا قتيلا بلا ذنب ولا سبب

ويا غريبا بعيد الدار مهتاني

والجن و الإنس قد ناحت لمصرعكم

مصابكم أحرق الاحشاء نيراني

قال: ثم انّها صلوات الله عليها نادت: السلام عليك يا ولدي السلام عليك يا قرّة عيني ويا ثمرة فؤادي ويا حبيب قلبي وجعلت تأخذ الدّم من نحره الشريف‏ وتصبغ به جبينها وناصيتها ومفرق رأسها، وتقول: هكذا ألقي ربي يوم القيامة وأنا مخضبة بدمك يا ولدي يا حسين، قال النصراني: فدنوت من النساء وأشرت إلى‏ جارية سوداء، فأتت إلى فقلت لها: بالله عليك يا جارية أخبريني عن هذا المصاب، فقد أذاب قلبي وأحرق فؤادي وشب نيراني، فقالت لي:

يا ويلك أنت نائم أم يقظان؟ وان خبر هذا المصاب في أهوال بلغت إلى عنان ‏السماء وإلى أسفل أرضين السفلى وتضعضعت منها الأطوار وتفتت منها الأكباد وبكى لها الإنس والجان والحور والولدان والملائكة في السّماء والجنّة والنّار والطيور على الأشجار والحيتان في البحار والحجار والأثمار، فقلت لها أنا رجل ‏ذمي مغمور في غمرات النصارى ولم أعلم بذلك، لكن أخبريني لمن هذه الخيل ‏والعسكر وعن هذه الرؤوس المشهورة وعن هذه النساء والأطفال المحملين على‏ الجمال المربطين بالأحبال وهم في أذل الأحوال وعن الرأس الذي يتكلم من غير جثة وعن الجسد الذي يمشي بغير رأس وعن الجارية التي ركبت الرأس على ‏الجسد فقالت: يا ويلك اما الخيل والعسكر فهي لعبيد الله بن زياد لعين أهل ‏السموات والأرض واما الرؤوس المشهورة على الرماح فهي أولاد الحسين ‏وأخوته وبني عمّه والنّساء والأطفال له، واما الرأس الذي يتكلم بغير جثة فهو رأس الحسين بن علي بن أبي طالب وهذا الجسد الذي يمشي بغير رأس فهو جسده الشريف وهذه الامرأة الكئيبة الحزينة أمه فاطمة الزهراء وبنت أشرف ‏الأنبياء، فقلت لها: أقسمت عليك بالله الا ما اعتذرت لي منها والتمست لي منها بأن تأذن لي أن أصل إلى هذا الشخص الربّاني، فأسلم على يديه وأهتدي بنوره‏ فاستأذنت لي، فجئت إليه وكببت على قدميه وأسلمت على يديه وتشرفت بنور طلعته وجئت إليك أجدد إسلامي على يديك وأتمسك بولايتك وولاية آبائك ‏الطّاهرين وأوالي وليكم وأعادي عدوكم وأفرح لفرحكم وأحزن لحزنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(17)

 


(1) الغرام بفتح المعجمة: الحب المعذب القلب.

(2) تاه تيها: ضل.

(3) الزعقة: الصيحة.

(4) العجاف جمع الاعجف: الإبل المهزولة؛ وانما جمع على عجاف (على غير قياس) اما حملا على نقيضه وهو سمان واماحملا على نظيره وهو ضعاف قاله الفيومي في المصباح وغيره في غيره.

(5) دابة أضلع: شديد غليظ قاله الفيروزآبادي.

(6) كذا بياض في الأصل.

(7) اللكع: اللئيم.  

(8) ساعفه: ساعده وعاونه.   

(9) أي أطول.

(10) صهرته الشمس: أصابته وحميت عليه.

(11) التفتت: التكسر.

(12) الاطمار جمع الطمر بكسر الطاء: الثوب وشفه الهم: أوهنه.

(13) الجنح بكسر الجيم المهملة وضمها من الليل: طائفة منه.

(14) ضمخ جسده بالطيب: لطخه به.

(15) العضب: السيف القاطع والسنين بمعنى المسنون من سن السكين شحذه وحده.

(16)  ثار: هاج.

(17) دارالسلام في ما يتعلق بالرؤيا و المنام: .175/2.

 

 

 

    زيارة : 3596
    اليوم : 29189
    الامس : 21751
    مجموع الکل للزائرین : 128965542
    مجموع الکل للزائرین : 89572759