الإمام الصادق علیه السلام : لو أدرکته لخدمته أیّام حیاتی.
إضعاف مثل هذه النفس

إضعاف مثل هذه النفس

وعليه لابدّ للإنسان أن يتّخذ قراراً من الآن فصاعداً أنّه كلّما ارتكب ذنباً أو معصية يكفر عنها من خلال قيامه بفعل عمل صالح ومرضي، فإذا استطاع تطبيق ‏هذه القاعدة والمعادلة على أرض الواقع فإنّه وفي غضون عدة أيام سوف يرى‏ في نفسه قد بدأ العدّ التازلي الكبير الذي طرأ في كبح جماح الأهواء النفسية، وبالتالي صهرها في بودقة الخير والصلاح والانطلاق نحو محاولة العودة للأهتمام من جديد بالبعد النفسي.

قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم :

إِذا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ حَسَنَةً تَمْحُوها.(11)

إنّ العمل الصالح الذي قام به الإنسان لجبران العمل الطالح والخطأ الذي ‏ارتكبه سيمحو بكلّ تأكيد الآثار التي يتركها ذلك العمل وسيخرج منه إلى‏ رحاب طهارة النفس، وإنّ واحدة من تلك الآثار هي الأهواء النفسية.

لذلك يجب على كل إنسان منّا الإستفادة من الأحاديث الواردة عن ‏المعصومين‏ عليهم السلام وأن يعزم من هذه الساعة على جبران كل عمل قبيح قام به بحسنة يفعلها حتى يمحو أثر ذلك العمل، حيث إنّ هذه الحالة إذا ظهرت وتعمقت في‏ القلب والوجدان فإنّها تستوجب البناء النفسي الصحيح والخوف من البارئ عزّوجلّ في كل كبيرة وصغيرة، وهذه قضية مهمّة ونجاح باهر على الإنسان التمسّك ‏به وعدم تضييعه.

ويجب أن يتولد عند الإنسان اليقين بأنّ إتباع أحاديث أهل البيت‏ عليهم السلام‏ والتمسك بها سوف يضي‏ء دربه ويخرجه من المتاهات وعنق الزجاجة في‏ هذه الحياة، ويفتح أمامه مساحات وأفاق من الزخم العطائي، فتتغلب النفس‏ المطمئنّة على النفس الأمّارة، وحينئذ تنكشف حقائق لم تكن في الحسبان‏ وبالنتيجة تتحقّق الكثير من الأعمال التي إذا قيست بمنطق الحسابات الرياضيّة والمقاييس الإنسانية يكون من الصعب تحقّقها.

وفي هذا المقام نستعرض لكم إحدى القصص عن المرحوم الميرزا القمي‏ رحمه الله والذي يعتبر أحد العلماء البارزين في تاريخ المذهب الشيعي الحق،حتّى نصدق أنّه يمكن تحقيق الكثير من الأعمال التي لاتصدق وتطبيقها على‏ أرض الواقع.

بعد وفاة المرحوم الميرزا القمي كان هناك رجل من أهل «شيروان» يعمل‏ دوماً في مرقده ولايبرحه قطّ ولايتقاضى على ذلك أيّ أجر وثمن، وهذا خلاف المعمول به، وفي أحد الأيّام سأله شخص عن سبب ذلك فقال:

إنّني من مدينة «شيروان» وأحد تجّارها وأثريائها المعروفين، وعندما رأيت‏ نفسي مستطيعاً لحجّ بيت اللَّه الحرام خرجت من مدينتي قاصداً زيارة الكعبة المشرّفة، وبعد الوصول إلى مكّة المكرّمة والقيام بأعمال الحجّ رجعت إلى ‏مدينتي عن طريق البحر، وفي أحد أيّام سفري ذهبت إلى أطراف السفينة لقضاء حاجتي، وبينما أنا اُريد الجلوس انقطع فجأة كيس الأموال التي كانت معي‏ وسقط في البحر عندها انقطع رجائي وأملي من الحياة، فرجعت إلى بلدتي‏ وقمت ببيع بعض الحاجات المنزلية وخرجت ذاهباً إلى مدينة النجف الأشرف ‏للتوسّل بالإمام أميرالمؤمنين علي‏ عليه السلام فشاهدت الإمام في إحدى الليالي في‏ الرؤيا، وقال لي: لاتحزن، إذهب إلى مدينة  «قم» واطلب كيس مالك من الميرزا أبي القاسم، فإنّه سوف يعطيه لك.

فاستيقظت من نومي وأنا مستغرب جدّاً من ذلك، إذ قلت في نفسي: إنّ ‏كيسي قد وقع في بحر عمان، وإنّ الإمام يقول لي: إذهب وخذه من مدينة «قم» ومن العالم الميرزا القمي!

قلت في نفسي: سوف أذهب إلى زيارة السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام بعد أن‏ أكمل زيارة باقي الأضرحة المطهّرة في العراق، وأقصّ ما شاهدت من رؤيا على ‏الميرزا القمي عسى أن يعمل لي شيئاً.

لهذا الأمر جئت إلى مدينة «قم»، وبعد زيارة مولاتي السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام ذهبت إلى بيت المرحوم الميرزا القمي، وكان الوقت وقت نوم ‏القيلولة، ولهذا لم يكن متوجداً في مكان الإستقبال، فقلت لأحد الملازمين له: إنّي رجل غريب وأتيت من مكان بعيد وعندي حاجة لدى الميرزا أريد أن‏ يقضيها لي، فرد عليّ: إنّه نائم فتعال إليه عصراً، فقلت له: حاجتي لاتستدعي‏ كل ذلك التأخير، فقال لي: اخرج وأغلق الباب بوجهي.

فتجرأت وطرقت الباب مجدّداً، فسمعت صوتاً يقول: اصبر يا فلان؛ فإنّي‏ آتٍ لكي أفتح الباب، حيث نادى عليّ باسمي، فتعجّبت كثيراً لما سمعت ذلك، فكيف عرف اسمي؟! وبعد لحظات فتح لي الميرزا القمي‏ رحمه الله بنفسه وسلمني ‏كيس الأموال الذي سقط منّي في بحر عمان، حيث أخرجه من تحت عباءته ‏وقال لي: إنّي لن أرضى أن تبوح بهذا الأمر ما دمت حيّاً، فأخذ كيسك وارجع إلى ‏وطنك.

فقبلت يده وودّعته وعزمت السفر في اليوم التالي، وبعد مشقة السفر وصلت إلى بلدتي ونتيجة أعمالي الكثيرة فقد نسيت تلك القصّة العجيبة،ولكن في أحد الأيّام وبينما كنت أقص بعض خواطري على زوجتي في سفري‏ إلى مكّة تذكرت تلك القصّة فقلتها لها وهي بدورها تعجبت وأصابتها الدهشة والإستغراب، فقالت: كيف لك أن تكتفي بهذا المقدار من لقائك بمثل هذه ‏الشخصيّة؟ أليس من الأجدر بك أن تلازمه وتصاحبه ما دمت حيّاً؟ فقلت لها: وما العمل؟ فقالت: يجب على الإنسان أن يكون في خدمة مثل هذا الشخص‏ الجليل ما دام فيه نفس، ومن ثمّ يدفن بجواره بعد الموت.

فقلت: كان اشتياقي للأهل والأقرباء هو الذي منعني من القيام بذلك، والآن ‏انقضى كلّ شي‏ء وقد حُرمت من تلك النعمة الفضيلة.

فقالت: أنت مخطئ ويمكنك تصحيح ذلك وعدم تضيع الفرصة، وإنّ مدينة «قم» من المدن الكبيرة وإنّ خدمة هذا الشخص هي فاتحة خير لكلّ شي‏ء، إذهب واجمع أموالك ونأخذها معنا إلى هناك ونعيش بها ونحن بجوار القبر الطاهر لمولاتنا فاطمة عليها السلام بنت الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ونقضي باقي العمرفي خدمة ذلك العالم الجليل.

فرأيت رأيها صائباً، فقمت ببيع كلّ ما أملك من اراضٍ وعقارات وحولتها إلى‏ أموال وأخذت بيد زوجتي وقصدنا مدينة «قم» المقدّسة، وعندما دخلنا سمعت ‏بخبر رحيل المرحوم الميرزا القمي، فحزنت كثيراً ومنذ ذلك الزمان وإلى هذه ‏اللحظة فإنّي ملازم قبره الشريف وأخدم فيه وهو من دواعي فخري واعتزازي.(12)

وتوضح هذه القصّة حقيقة مفادها أنّ الكثير من الاُمور والأعمال التي هي‏ في العرف والعقل من المستحيل تحقّقها، وبالتالي عدم السير وراءها ورفض‏ كلّ الطرق والذرائع والأساليب المؤدّية لها، ولهذا نقول بعدم إمكانية وقوعها، ولكن في الواقع يمكن تحقيقها مثل كيس المال الذي سقط في بحر عمان، ولكن أخرجه المرحوم القمي من تحت عباءته وأعطاه إلى صاحبه.

إنّ النقطة التي تلفت الإنتباه هي أنّ الإمام أميرالمؤمنين ‏عليه السلام قد قال للرجل‏ عند مشاهدته في الرؤيا: خذه من العالم القمي الميرزا أبوالقاسم، وهذا معنى ‏أنّ الإمام يرى في هؤلاء علماء أمّته وشيعته ويعتقد بقدراتهم وعلومهم؛ لأنّه يمكن ‏للإمام ‏عليه السلام أن يعبّر بتعابير اُخرى عنه ويعرفه حسب شهرته ويقول: إذهب وخذ مالك من الميرزا القمي.

إذن ينبغي على الإنسان عدم الكف عن الطلب والإرادة حتّى يصل - وبمرور الزمان - إلى مرحلة معرفة النفس وتصبح بعض الاُمور غير الممكنة ممكنة، وهذا لايمكن إلاّ من خلال ترويض النفس والسيطرة عليها، ولكن كلّ‏ ذلك يرجع إلى الفرد نفسه ووجود السعي والعزيمة لديه وكما يمكنه أيضاً تركها تجول وتصول فتكون بمنزلة البهائم أو أدنى.

جرّد النفس وأنهها عن هواها

لاتذرها في غيها تتلاهى

زكّها بالتقوى فما تفلح النف

س بحال إلاّ على تقواها


11) بحار الأنوار: 389/71، أمالي الطوسي: 189/1.

12) العبقريّ الحسان: 100/2.

 

 

 

 

 

 

 

 

    زيارة : 2790
    اليوم : 32615
    الامس : 52396
    مجموع الکل للزائرین : 133690612
    مجموع الکل للزائرین : 92505941