الإمام الصادق علیه السلام : لو أدرکته لخدمته أیّام حیاتی.
التقوى والمقامات المتعالية

التقوى والمقامات المتعالية

هناك رواية مهمّة وردت عن رسول اللَّه ‏صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموضوع تبيّن عظمة وقيمة والآثار المترتّبة على التقوى والصلاح، حيث تحرّك عند الإنسان ‏الشعور لتحكيمها في جميع مجالات حياته، تقول الرواية:

قالَ رَسوُلُ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم:

... قَدْ أَجْمَعَ اللَّهُ تَعالى ما يَتَواصى بِهِ‏ الْمُتَواصوُنَ مِنَ الْأَوَّلينَ وَالْآخِرينَ في خَصْلَةٍ واحِدَةٍ وَهِيَ التَّقْوى، قالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذينَ اوُتوُا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ‏وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقوُا اللَّه»(98)، وَفيهِ جِماعُ كُلِّ عِبادَةٍ صالِحَةٍ، بِهِ وَصَلَ ‏مَنْ وَصَلَ إِلَى الدَّرَجاتِ الْعُلى، وَالرُّتْبَةِ الْقُصْوى، وَبِهِ عاشَ مَنْ‏ عاشَ مَعَ اللَّهِ بِالْحَياةِ الطَّيِّبَةِ وَالْاُنْسِ الدَّائِمِ، قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنّ ‏الْمُتَّقينَ فى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِر»(99).(100)

ومن هنا نرى أنّ اُولئك الذين يبتغون الوصول إلى المقامات والمنازل المعنويّة العالية والنهائيّة، ويسعون إلى الإستفادة من الحياة الإلهية والأنس مع اللَّه تبارك‏ وتعالى وأوليائه الصالحين لابدّ لهم من التقوى والصلاح، حيث لا كنز أفضل منه،يقول مولانا أميرالمؤمنين علي ‏عليه السلام:

إِنَّ التَّقْوى أَفْضَلُ كَنْزٍ.(101)

ويجب أن يكون الإنسان مخلصاً في هذا المسير، وأن يجعل التقوى بين‏ عينيه في السرّ والخفاء، قال أميرالمؤمنين علي‏ عليه السلام:

عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ.(102)

وعوداً على بدء نقول: إنّ هناك أشخاصاً على عكس «شريك»، فقد كانوا يتورّعون عن أكل لقمة الحرام وجعلوا التقوى ملاكاً ومقياساً في كلّ حركاتهم ‏وسكناتهم ولم يحيدوا عنها قيد شعرة، ومن هنا فقد وصلوا إلى أعلى المراتب‏ والمقامات المعنوية، ولعلّ القصة التي نذكرها هنا خير أنموذج من ذلك:

كان الحاج محمد الحسني التبريزي أحد تجار مدينة تبريز المحترمين‏ لاينجب وعلى الرغم من مراجعاته المتكرّرة للأطبّاء، لكنّه لم يزرق بولد أووريث.

ثم يقول التبريزي: ومن أجل ذلك ذهبت إلى النجف الأشرف، ومن هناك‏ إلى مسجد السهلة لكي أتوسّل إلى الإمام الحجة عجّل اللَّه تعالى فرجه وأجعله شفيعاً لقضاء حاجتي، وفي إحدى الليالي وفي عالم المكاشفة رأيت سيّداً مهيباً عظيماً أشار ثم قال: إذهب إلى «محمّد علي جولاكر» في مدينة «دزفول» حتّى‏ يستجيب اللَّه دعوتك ويؤمن حاجتك.

وفي اليوم التالي حزمت أمتعتي وسافرت إلى دزفول، وعندما وصلت‏ المدينة وسألت عنه أعطوني عنوان دكانه، فذهبت إليه فوجدت رجلاً فقيراً حيّ الضمير مؤمناً بسيطاً. فسلمت عليه وردّ السلام وقال: وعليكم السلام يا حاج محمّد حسن؛ لقد قضيت حاجتك.

فتعجّبت منه كيف عرف اسمي؟ وكيف علم بحاجتي لديه؟ ثمّ رجوته أن ‏أبقى الليل معه، فقال: لا مانع عندي.

فدخلت الدكان وجلست عنده حتّى المغرب، حيث توضّأنا وصلّينا المغرب والعشاء سويّة. وبعد مضي قليل من الليل أحضر العشاء وكان خبزاً ولبناً، فأكلنا حتّى شبعنا ثمّ حمدنا اللَّه تعالى على نعمته، ثمّ نمنا في الدكان. وفي‏ الصباح صلّينا الصبح وقرأ بعض الأدعية والتعقيبات، ثمّ بدأ عمله في حياكة الكرباس، فقلت: إنّني حينما جئت إليك كانت لدى حاجتان عندك، وقد قلت‏ ليلة أمس: إنّ واحدة منهما قد قضيت والحمد للَّه، أمّا الثانية فهي إنّني أسالك‏ ماذا فعلت حتّى وصلت إلى هذا المقام المحمود عند اللَّه، حيث نصحني‏ الإمام‏ عليه السلام أن آتي إلى خدمتك هنا في دزفول وأنت تعرف اسمي وحاجتي؟!

قال: أيّها الحاج حسن؛ لماذا تسأل كلّ هذه الأسئلة؟ لقد قلت لك: إنّ ‏حاجتك قضيت، فالأفضل أن تشكر اللَّه تعالى وترجع إلى بيتك، فقلت له: إنّني‏ ضيفك وحقّ الضيف على صاحب الدار، لذا أرجوك أن تشرح لي حياتك‏ وكيف وصلت إلى هذه الدرجة الرفيعة من الإيمان والمكاشفة؟! وإن لم تفعل‏ فإنّني لن أتركك وسوف أبقى معك، فقال: لقد قضيت عمري في حياكة الكرابيس في هذا المحلّ، وكان مقابل دكاني هذا منزل رجل من رجالات‏ الدولة الظالمين، حيث كان يحرس داره جندي طوال الليل والنهار.

فقلت له: إنّني أشترى في السنة الواحدة مائة «من» من الحنطة والشعير وأطحنها وأخبزها وأعيش مدّة عامّ واحد، وأنا وحداني ولا ولد ولاتلد ولا عائلة لدي.

فقال الجندي: إنّني وحيد هنا وليس لي صديق يحفظ سرّي وأخاف أن أكل‏ من طعام هذا الظالم الذي أخدمه، وإذا لم يكن لديك مانع فأرجوك أن تشتري‏ لي أيضاً مائة «من» حتّى تعطيني كلّ يوم قرصين من الخبز، وأكون لك من‏ الشاكرين.

فوافقت على طلبه واشتريت له الشعير والحنطة وكنت أعطيه كلّ يوم ‏قرصين من الخبز ليعتاش بهما.

وفي أحد الأيّام تأخّر ذلك الجندي من موعده فذهبت إلى دار الوزير لأساله ‏عنه فقالوا: مريض وعندما جلست معه رجوته أن أجلب له طبيباً ليداويه فقال: لا حاجة لي بذلك سوف أذهب في منتصف هذه الليلة، وإذا متّ فسوف يأتي‏ شخص إليك ويخبرك عن موتي فتعال هنا وأنجز ما يطلبونه منك، أمّا باقي‏ الطحين فهو لك حلالاً.

وعندما بدأت رغبتي في البقاء بجانبه في الليل أبى ذلك، فرجعت إلى دكّاني ‏وفي منتصف الليل انتبهت على طرق باب الدكان وشخص يناديني: أخرج يا محمد علي؛ فخرجت من الدكّان ورأيت شخصاً لا أعرفه، حيث قادني إلى‏ مسجد الحلة فرأيت الجندي مسجى في التابوت وحوله رجلان لا أعرفهما أيضاً، ثمّ قالا لي: ساعدنا لنأخذ الجنازة إلى النهر ونغسلها، فحملنا نعش‏ الجندي وذهبنا إلى الجدول القريب من المنطقة، وغسلنا الميّت وكفناه وصلّينا صلاة الميت عليه، ثمّ جئنا به إلى مقبرة بجانب المسجد فدفنّاه فيها. ثمّ رجعت‏ إلى دكّاني وبعد عدّة ليال طرق أحدهم باب دكّاني ففتحت الباب ورأيت شخصاً يقول: يا محمد علي؛ يريدونك فتعال معي، فأطعت أمره وذهبت مع ذلك‏ الطارق الليلي وسرنا طويلاً حتّى وصلنا الفلاة وبداية الصحراء وكانت منارة بشكل عجيب، وكأنّه قد أشرق الصبح. وبعد فترة وصلنا إلى صحراء النور، (وتقع هذه الصحراء في شمال دزفول) ورأينا عن بعد بعض الأشخاص‏ جالسين يتسامرون ويتحدثون وشخصاً آخر واقف في خدمتهم.

ولاحظت أنّ بين تلك الجماعة الجالسة، شخصاً نورانيّاً مهيب الطلعة حلوّ الشمائل عظيم الشأن، فعلمت أنّه صاحب الأمر والزمان صلوات اللَّه عليه، فأصابتني ‏موجة من الخوف والرهبة، وارتجفت أوصالي، فكأنّي ريشة في مهب الريح! ثمّ قال لي ذلك الطارق الليلي: تقدّم قليلاً يا محمّد علي؛ فأطعته وتقدّمت بضع ‏خطوات، ثمّ قال الشخص الواقف: تقدّم أكثر، فتقدّمت خطوات أخرى. عند ذلك قال بقيّة اللَّه في أرضه عجل اللَّه تعالى فرجه لأحد أصحابه: أعط هذا الرجل ‏منصب الجندي لما قدمه من خدمة إلى شيعتنا.

فقلت: يا سيدي ومولاي؛ أنا عامل أكسب عيشي من حياكة الكرابيس، فكيف أكون جنديّاً عسكريّاً؟ وظننت آنذاك بأنّهم يريدون أن يستبدلوني بذلك‏ الجندي عند دار الوزير.

فتبسّم الرجل العظيم وقال: نحن نريد أن نعطي منصب ذلك الجندي لك. ثمّ أجبت بالجواب نفسه بأنّني لست جنديّاً.

فقال روحي له الفداء مرّة ثالثة: إنّنا نريد أن نعطيك منصب ذلك الجندي، وليس ‏أن تكون جنديّاً مثله وسوف تكون مكانه فعلاً، فاذهب الآن.

رجعت وحدي في ذلك الليل البهيم البارد وعشت وحدي منذ ذلك الوقت ‏والحمد للَّه آخذ من سيّدي ومولاي بقيّة اللَّه في أرضه صلوات اللَّه عليه الأوامر وأنفذها وحاجتك كانت إحدى تلك الأوامر.(103) 

فهذه قصّة ذلك الجندي الذي امتنع عن أكل لقمة الحرام بفضل تلك التقوى‏ والصلاح التي كان عليها، وتلك هي قصّة القاضي «شريك» الذي لوث نفسه‏ بلقمة الحرام فأيّهما الأفضل التشرّف بخدمة الإمام صاحب العصر والزمان عجّل‏ اللَّه تعالى فرجه الشريف أم الخدمة في بلاط الخليفة العباسي الجائر والظالم!

هذه هي سيرة وحياة عظماء الدين والمذهب الشيعي، فكلّها مليئة بالتقوى‏ والصلاح، فاستطاعوا من خلالها تطبيق حياتهم وفق ما أراده البارئ عزّ وجلّ، فوصلوا إلى الحالات المطلوبة والمقامات المعنويّة الشامخة.


98) النساء: 131.

99) القمر: 54 55.

100) كشف الغمّه: 368/2، نقلاً عن بحار الأنوار: 200/78.

101) بحار الأنوار: 376/77، عن كتاب الأمالي للمرحوم الشيخ الطوسي: 296/2.

102) بحار الأنوار: 290/77، عن تحف العقول: 92.

103) حياة وشخصيّة الشيخ الأنصاري: 52.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

    زيارة : 2751
    اليوم : 14901
    الامس : 103128
    مجموع الکل للزائرین : 132292636
    مجموع الکل للزائرین : 91754087